أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله
عليه وسلم ، وأوجب عليهم طاعته . وسبيل العبد للوصول إلى تحقيق ذلك هو
التعرف على هديه صلى الله عليه وسلم ، والحال التي كان عليها صلى الله
عليه وسلم في شأنه كافة . وليس بخاف على مسلم أن الهدي النبوي هو أكمل ما
عُرف من هدي وأعظمه ، وأنه بمقدار قرب العبد منه صلى الله عليه وسلم وعمله
بمثل عمله صلى الله عليه وسلم يتدرج في سلم الوصول إلى العلا ، ويصعد في
مراقي الكمال البشري .
ولما كان شهر رمضان من أعظم مواسم الإسلام وأجلها ، ومن أكثر الفرص
[size=16] * تأديبه صلى الله عليه وسلم لمن خشي عليه
التعمق ، كما واصل بمن أبوا إلا الوصال [75] . إن شريعة الإسلام شريعة
اليسر والسهولة « ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه » [76] ، ولطالما تواردت
النصوص على هذا الأصل : أصل التيسير ورفع الحرج .. وهذه خاصية الدين
الواقعي الملائم للفطرة ، والذي أراد الله له البقاء حتى تقوم الساعة .
وتنكيله صلى الله عليه وسلم بمن أرادوا الوصال ينسجم مع ذلك الأصل ؛ إذ
خشي صلى الله عليه وسلم عليهم العنت والمشقة ، لكن لما كانت بعض النفوس لا
يكفيها الكلام احتاج صلى الله عليه وسلم إلى العقوبة ، ولم تكن تلك
العقوبة على أمر محرم ، فلو كان محرماً ما فعلوه ، ولما أقرّهم عليه ، بل
إنه زادهم من جنس ما رغبوا فيه ، حتى يدركوا الفرق بينهم وبينه صلى الله
عليه وسلم .
* استقباله صلى الله عليه وسلم لمن وفد عليه . قال ابن إسحاق : « وقدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك ، وقدم عليه في ذلك الشهر
وفد ثقيف » [77] .
إن مخالطته صلى الله عليه وسلم للناس في رمضان صفحة من جهده الدعوي فيه ، وهو ما يحتاجه الدعاة للتأسي به .
* أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإخراج زكاة الفطر من رمضان .
* إيكاله صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال إلى أصحابه ، كما وكّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان [78] .
وفي هذا تخفيف من الجهد عليه ؛ لأن الشخص بمفرده لا يطيق القيام بجميع
المهام ، فلا مفرّ من توكيل الآخرين وتفويضهم في القيام بالأعمال وإنجاز
المهام ، وهذا يعكس في الوقت نفسه ثقة الداعية في أصحابه ، وهكذا كان صلى
الله عليه وسلم يعامل صحبه الكرام ، حتى كانوا رجال أمة ودولة .
وأخيراً : فأحسب تلك الصفحات قد أطلعتنا على جزء يسير من سيرته العطرة صلى
الله عليه وسلم . فما أمسَّ حاجتنا إلى التنعم في ظل سيرته صلى الله عليه
وسلم والعيش مع أخباره ، والتعرف على أحواله ، وترسم هديه وطريقته ... كيف
لا ؛ وذلك الطريق هو السبيل الأوحد لنيل محبة الخالق تعالى والقرب منه ،
كما قال عز وجل : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ ( آل عمران : 31 ) . السانحة أمام العبد لكي يتقرب من الله تعالى وينال رضاه ، كانت هذه
المحاولة للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان ، علّها تكون
دليلاً للعاملين ونبراساً للسائرين ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت
وإليه أنيب . وخشية من طول الموضوع، ولأن المراد الإشارة مع نوع تركيز على
الجوانب التي تهم المسلم عملاً ودعوة فسأجعل الموضوع مقتصراً على محاور
أربعة :
أولاً : حاله صلى الله عليه وسلم مع رمضان قبل قدومه :
كان صلى الله عليه وسلم شديد الزهد في الدنيا عظيم الرغبة فيما عند الله
تعالى والدار الآخرة ، وخير دليل على ذلك : قيامه صلى الله عليه وسلم
عملياً بالاستعداد للأمر وتهيئته النفس لاستقبال رمضان مقبلة على الخير ،
نشيطة في الطاعات ؛ لتغتنم الفرصة كاملة ، وتهتبل الموسم كله . هكذا كان
هدي سيد الورى صلى الله عليه وسلم مع رمضان ؛ إذ قام صلى الله عليه وسلم
بالعديد من الأمور قبله ، لعل من أبرزها :
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان [1] . قالت عائشة : « لم
أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان ، كان يصوم شعبان كله ، كان
يصوم شعبان إلا قليلاً » [2] .
* تبشيره صلى الله عليه وسلم أصحابه بقدومه وتهيئتهم للاجتهاد فيه بذكر
بعض خصائصه وتضاعف الأجور فيه ؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
« إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب
النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي
منادٍ : يا باغي الخير أقبل ! ويا باغي الشر أقصر ! ولله عتقاء من النار ،
وذلك كل ليلة » [3] .
* بيانه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام : وفي هذه المقالة جملة من ذلك .
* عدم دخوله صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان إلا برؤية شاهد أو إتمام
عدة شعبان ثلاثين ، عن ابن عمر قال : « تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه ، وأمر الناس بصيامه » [4] .
فأين أنت من التهيؤ لرمضان قبل نزوله ، فهو ضيف غنيمة لهذه الأمة ، ينزل
عليهم ، فيذكر غافلهم ، ويعين ذاكرهم ، وينشِّط عالمهم ، ويشحذ همهم
للطاعات ، فتمتلئ مساجدهم ، وتجود نفوسهم ، وينتصر مجاهدهم .. فما أحقه
بأن تعدّ العدة لاستقباله !
ثانياً : أحواله صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان :
كان نبي الهدى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه سبحانه ، وأعظمهم
قياماً بحقه .. تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغاً يعجز عن فهمه أكثر
العالمين ، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! ثم هو يقوم من
الليل حتى تنتفخ وتتفطر قدماه . كان له صلى الله عليه وسلم بكاء المذنبين
وأنين العاصين ودعاء المكروبين . وأحواله مع ربه في رمضان أنموذج حي
يصوِّر عبادته صلى الله عليه وسلم وأشكال خضوعه لبارئه فينطق محدِّداً
جوانب عدة ، أبرزها :
* صيامه صلى الله عليه وسلم لشهر رمضان : وهذا بيِّن ، والمراد من إيراده
مع بداهته التذكير بشيء من صفة صيامه صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
1 - سحوره صلى الله عليه وسلم ، وتأخيره للسحور ، حيث كان صلى الله عليه
وسلم يتناوله قبل أذان الفجر الثاني بقليل ، وكذا إفطاره ، وتعجيله
للإفطار ، حيث كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب ، وكان
يفطر على رطب أو تمر أو ماء . وأيضاً : تواضع إفطاره وسحوره صلى الله عليه
وسلم .
ندرك هنا أن التكلف الذي نشهده اليوم في إفطار الناس وسحورهم هو أبعد شيء
عن هديه صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أنه يوسّع حظ النفس بما يلهي ويثقل عن
الطاعة . فحري بالكيس الحازم أن يضبط الأمر ويحدَّ منه ، دون التذرع
بالواهي من الحجج ، من تناول الطيب وإكرام الضيف .. بما يفوت خيراً كثيراً
. وليتأس بنبيه صلى الله عليه وسلم فيما عرف من أحواله .
2 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الإفطار ، بقوله : « ذهب الظمأ ،
وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله » [5] .
3 - سواكه صلى الله عليه وسلم في حال الصيام ، لما رُوِيَ عن عامر بن
ربيعة قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم »
[6] .
4 - صبه صلى الله عليه وسلم الماء على رأسه وهو صائم ، لحديث أبي بكر ابن
عبد الرحمن قال : « عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من
العطش أو من الحر » [7] .
5 - وصاله صلى الله عليه وسلم الصيام أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على
العبادة [8] . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تواصلوا .
قالوا : إنك تواصل ، قال : لست كأحد منكم ، إني أُطعم وأُسقى أو إني أبيت
أُطعم وأُسقى » [9] .
6 - سفره صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وصومه صلى الله عليه وسلم في حين
وفطره في آخر . عن طاوس عن ابن عباس قال : « سافر رسول الله صلى الله عليه
وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهاراً
ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة ، قال : وكان ابن عباس يقول : صام رسول
الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر [10]
. قال ابن القيم : « ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة
التي يفطر فيها الصائم بحدِّ ، ولا صح عنه في ذلك شيء ... وكان الصحابة
حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك
سنته وهديه صلى الله عليه وسلم ... قال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في
رمضان وهو يريد سفراً ، وقد رُحِّلت له راحلته ، ولبس ثياب السفر ، فدعا
بطعام فأكل ، فقلت له : سنة ؟ قال : سنة ، ثم ركب » [11] . ومهما نقل عن
أئمة الفقه ، وأهل العلم في الأفضل من الفطر ، أو الصوم في السفر فيبقى أن
الصوم والفطر في السفر ، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما
ينبغي أن يراعيه المتعجلون بالإنكار على المفطرين أو الصائمين في السفر ..
فلكل مأخذه
وحجته .
7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من الصيام برؤية محققة أو بإتمام الشهر
ثلاثين ، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا
لرؤيته ، وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين ، فإن شهد شاهدان
فصوموا وأفطروا » [12] .
هذه بعض الجوانب التي تجلي للمسلم شيئاً من صفة صومه صلى الله عليه وسلم ،
والتي يظهر صلى الله عليه وسلم من خلالها حريصاً على الإتيان بمستحبات
الصوم وآدابه . وهذا ما يدفع المسلم إلى أن يتأمل في صيامه ، ويعمل على
تحسين حاله ، ليكون أشد تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر قرباً
منه .
* قيامه صلى الله عليه وسلم الليل في رمضان . ولعل أبرز ما تميز به قيامه صلى الله عليه وسلم ما يلي :
1 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في قيامه على إحدى عشرة ركعة ، أو
ثلاث عشرة ركعة ، كما يدل لذلك حديث عائشة قالت : « ما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة » [13] ،
وحديثها الآخر قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل
ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين» [14] .
2 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم الليل كله ، بل كان يخلطه بقراءة
قرآن وغيره ، يدل لذلك حديث عائشة قالت : « ولا أعلم نبي الله صلى الله
عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام
شهراً كاملاً غير رمضان » [15] ، وحديث ابن عباس ، وفيه : « وكان جبريل
يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن
» [16] .
3 - أن غالب قيامه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً ؛ خشية أن يُفرض القيام
على أمته . لقد كان شديد الخوف أن يفرض عليها القيام فيقصِّر فيه أناس
فيأثموا .. هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل أو
كله ، لكنه ينظر لمن بعدهم ، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا . وفي هذا درس
بليغ للدعاة أن يجمعوا مع الاجتهاد وبذل غاية الوسع في هداية الأمة
ودعوتها .. خوفاً شديداً من وقوعها في الإثم رحمة بها .
4 - إطالته صلى الله عليه وسلم لصلاة القيام ؛ فقد سئلت عائشة : كيف كانت
صلاة رسول الله في رمضان ؟ فقالت : « ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره
على إحدى عشرة ركعة : يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي
أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً ، فقلت : يا رسول الله ،
أتنام قبل أن توتر ؟ قال : يا عائشة ! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي »
[17] . وبذا يتجلى لنا خطأ كثير من الحريصين على الاقتداء به صلى الله
عليه وسلم ، والذين يحرصون على التأسي به في العدد دون الكيفية : من إطالة
وخشوع وطمأنينة ،
نسأل الله تعالى التوفيق للصواب .
* مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام فعن ابن عباس :
« كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه صلى
الله عليه وسلم القرآن » [18] . وفي رواية : ( فيدارسه ) [19] : وهذه صيغة
فاعلة تفيد وقوع الشيء من الجانبين [20] . فإذا كان هذا الحرص وتلك
العناية بمدارسة القرآن ممن جمع الله له القرآن في صدره ، وتولى تفهيمه
إياه ، فما أحوجنا إلى مثل هذه المدارسة لننعم بهداية القرآن الكريم ؟
* تواضعه وزهده صلى الله عليه وسلم : وشواهده كثيرة ، منها : سيلان ماء
المطر من سقف المسجد على مصلاه صلى الله عليه وسلم وسجوده في ماء وطين
[21] ، وصلاته صلى الله عليه وسلم قيام الليل على حصير [22] ، واعتكافه
صلى الله عليه وسلم في قبة تركية على سدتها حصير [23] ، واعتكافه صلى الله
عليه وسلم في بيت من سعف [24] ، وتواضع فطوره وسحوره صلى الله عليه وسلم ،
كما تقدم ، ومنها : قلة طعامه صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن أنيس
: « ... فأُتي [أي : النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان] بعشائه فرآني
أكفُّ عنه من قلِّته ... » [25] .
ومن هذا يتبين أن الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم هو التواضع والزهد (
وهو : ترك ما لا ينفع في الآخرة ) ، والتقلل من نعيم الدنيا ، والحرص على
الاخشيشان والبذاذة والتبسط وترك التكلف الذي يكون دافعه تواضع القلب لله
تعالى وإخباته له ، وإقباله عليه ، وطمأنينته ورضاه به ، وتعلقه بنعيم
الآخرة الباقي ، وهذه حقيقة الزهد ، لا أن نترك ذلك ظاهراً والقلوب شغوفة
متطلعة إليه مشغولة به ، فتلك عبودية الدنيا كعبودية الدرهم والدينار .
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الإحسان والبر والصدقة . قال ابن عباس : «
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في
رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه
القرآن ، فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير
من الريح المرسلة » [26] . وعلة زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان :
« أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس ، والغنى سبب الجود
»[27] . إنه أثر القرآن .. وثمرة الزهد ، وكفى ! !
* جهاده صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وجعله منه شهر بلاء وبذل وفداء ، ويتجلى ذلك بأمرين :
الأول : غزوُه صلى الله عليه وسلم للمشركين في رمضان ، وكون أعظم
انتصاراته صلى الله عليه وسلم وأجلّها والمعارك الفاصلة التي تمت في حياته
كانت فيه . قال أبو سعيد الخدري : « كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في رمضان » [28] ، وقال عمر بن الخطاب قال : « غزونا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح ، فأفطرنا فيهما »
[29] .
الثاني : السرايا والبعوث العديدة التي كانت في رمضان ، وهي كثيرة [30] .
وجهاده صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اجتهادهم في العبادات الأخرى دلالة
على أثر الصيام الإيجابي فيما يورثه لصاحبه من قوة في النفس تورث قوة في
الجسد .
على أن ما يحتاجه الجسم من الغذاء أقل مما نتصوره اليوم ، وإنما تخور قوى
الصائمين المترفين الذين ألفوا الملذات فجهدت نفوسهم بغياب ملذاتها
وشهواتها وتأخرها عنهم ؛ إذ لنفوسهم على قلوبهم غلبة وسلطان ، والله
المستعان .
اعتكافه صلى الله عليه وسلم وخلوته بربه سبحانه : والمتأمل في حاله في الاعتكاف يلحظ ما يلي :
1 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المدينة في رمضان من كل سنة ، وتقلبه
صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في كل عشر من الشهر ، ثم استقراره في آخر
الأمر على الاعتكاف في العشر الأواخر منه ، لإدراك ليلة القدر .
2 - أمره صلى الله عليه وسلم بأن يُضرب له خباء في المسجد يلزمه يخلو وحده
فيه بربه » [31] . قال ابن القيم : « كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف
وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين
، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون ،
والله الموفق » [32] .
3 - دخوله صلى الله عليه وسلم معتكفه إذا صلى فجر اليوم الأول من العشر
التي يريد اعتكافها ، يدل لذلك قول عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل معتكفه » [33] .
4 - حرصه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف على حسن مظهره ونظافة جسده ، كما في ترجيل عائشة شعره .
5 - زيارة أزواجه صلى الله عليه وسلم في حال اعتكافه وحديثه معهن ، يدل
لذلك حديث صفية قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته
أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت ... » [34] .
6 - عدم خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه إلا لحاجة ، يدل لذلك قول
عائشة : أنه صلى الله عليه وسلم « كان لا يدخل البيت إلا لحاجة ، إذا كان
معتكفاً » [35] وربما أخرج بعض جسده من المعتكف لحاجة ، كترجيل رأسه [36]
.
7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه مصبحاً لا ممسياً من الليلة التي
تلي اعتكافه ، كما في حديث أبي سعيد الخدري « أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة
إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه » [37] .
وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه
وعبادة مولاه مع كونه المنتصب لدعوة الناس القائم بشؤون الأمة : دليل على
مسيس حاجة الدعاة إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة ، وإن التقصير في ذلك
يرسخ عيوب النفس ويزيد أمراضها ، حتى تكون مزمنة ، كما أن حرمان القلب من
زادِهِ مورث لقسوته وغفلته وقلة بصيرته وفُرقَانه ، وأيضاً فإن ترك
استمداد عون المعين طريق الخذلان . ومن أفضل السبل لتدارك ذلك : الخلوة
بالنفس لتجديدها ، ولا أفضل من الاعتكاف لتحقيق ذلك . وقد كثر في الناس
ترك هذه السنة المباركة ، قال الإمام الزهري : « عجباً للمسلمين ! تركوا
الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله
عليه وسلم ، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل » [38] .
.
للحديث بقيه
نرجو الدعاء الهواري