أى رمضان رمضانك !!؟
لطالما حدثنا أنفسنا باهتبال فرصة رمضان، ولكم منيناها بصلاحها فيه ، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأوبةٍ حقةٍ، وتوبةٍ صادقةٍ، ودمعةٍ حارةٍ، ونفسٍ متشوقةٍ، ولكن كلما أتى قضى الشيطان على الأمنية، وخاست النفسُ الأمارةُ بالسوء بعهدها وغدرت، فثابت ليالٍ ورجعت أيام ثم عادت لسالف عهدها كان لم تغن بنور رمضان وضيائه...
وها نحن- أيها الأحبة في الله- يطالعنا شهرٌ وموسمٌ من الخير جديد فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانُك هذه المرة ؟!.. هل هو رمضانُ المسوفين الكسلانين؟! أم رمضان المسارعين المجدين؟!
هل هو رمضان التوبة أم رمضان الشِقِوة، هل هو شهرُ النعمةِ أم شهرُ النقمة؟!
هل هو شهر الصيام والقيام ؟! أم شهر الموائد والأفلام والهيام؟!!
هذا ما يعتلج بالفوأد ويدور بالخلد ؟!
هاهو هلال رمضان قد حل ووجه سعده قد طل .. رمضان هل هلاله، وخيمت ظلاله، وهيمن جلاله، وسطع جماله، لقد أظلنا موسم كريم الفضائل، عظيم الهبات والنوائل ، جليل الفوائد والمكارم...
أيام وليالي رمضان: نفحاتُ الخير ونسائم الرحمة والرضوان ، فما ألذها من أيام معطرةٍ بالذكر والطاعة، وما أجملها من ليالٍ منورةٍ بابتهالات الراغبين وحنين التائبين.
رمضان: المنحةُ الربانية، والهبةُ الإلهية، قال تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (البقرة:185).
شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ *** من ألف شهر فُضّلت تفضيلا
طوبى لعبدٍ صحَ فيه صيامه *** ودعا المهيمنَ بكرةً وأصيلاوبليله قد قامَ يختم وردَه *** متبتلاً لإلهه تبتيلا
رمضان
: أشرُف الشهور، وأيامُه أحلى الأيام ، يعاتبُ الصالحونَ رمضانَ على قلة الزيارة، وطول الغياب ، فيأتي بعد شوقٍ ويَفِدُ بعد فراق فيجيبه لسان الحال قائلاً:
أهلاً وسهلاً بالصيام * يا حبيبا زارنا في كل عامْ
قد لقيناك بحبٍ مفعم * كُل حب في سوى المولى حرامْفاقبل اللهم ربي صومنا * ثم زدنا من عطاياك الجسامْلا تعاقبنا فقد عاقبنا * قلق أسهرنا جنح الظلام
أخي الحبيب
.. إن رمضانَ فرصةٌ من فرصِ الآخرةِ التي تحمل في طياتها غفرانَ الذنوب وغسلَ الحوب..!! وكم تمر بنا الفرص ونحن لا نشعر.. هذه فرصة وما أعظمها، تحملُ سعادةَ الإنسان الأبدية فأين المبادرون، وأين المسارعون ..
إن الصيام هو المدرسة التي يتعلمُ منها المسلمون, ويتهذب فيها العابدون ويتحنث فيها المتنسكون..
جاء شهرُ الصيام بالبركات * فأكرم به من زائرٍ هو آت
نعم إنه شهر البركات والرحمات
: فرمضان شهر الطاعة والقربى، والبر والإحسان، والمغفرة والرحمة والرضوان، و العتق من النيران: ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم وسُلسُلت الشياطين). وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضانَ صفدت الشياطين ومردة الجن وغُلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب وينادي مناد: ياباغي الخير أقبل وياباغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كُلَ ليلة) رواه الترمذيُ وابنُ ماجةَ والنسائيُ وحسنهُ الألبانيُ.
الصيامُ يُصلح النفوسَ، ويدفع إلى اكتساب المحامد, والبعد عن المفاسد، به تُغفر الذنوبُ وتكفَّر السيئات وتزدادُ الحسنات، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.
نعم - ياعبدالله - رمضانُ سببٌ لتكفير الذنوب والسيئات إلا الكبائر قال صلى الله عليه وسلم: ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر ) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم : ( فتنة الرجال في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة) متفق عليه.
رمضان فيه إجابةُ الدعوات وإقالةُ العثرات قال صلى الله عليه وسلم: ( لكل مسلمٍ دعوةٌ مستجابةٌ يدعو بها في رمضان ) ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لاترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم) رواه أحمد.
هذه هي فرصة رمضان فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانك، وتلك هي نعمة رمضان فماذا أنت فاعل وما ذا أنت صانع:
أتى رمضانُ مزرعةُ العباد * لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً * وزادكَ فاتخذهُ للمعادفمن زرع الحبوبَ وما سقاها * تأوه نادماً يومَ الحصادِ
إن شهراً بهذه الصفات وتلك الفضائل والمكرمات لحرى بالاهتبال والاهتمام ، فهل هيأت نفسك- أخي المسلم- لاستقباله وروضتها على اغتنامه ؟
!
عن أبي هريرةَ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه يفتحُ فيه أبوابُ الجنة ويغلقُ فيه أبواب الجحيم ، وتغلُ فيه الشياطين ، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ ). رواه أخرج أحمدُ والنسائيُ وصححه الألباني.
لقد كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان وإتيانه كُل ذلك شحذاً للهمم وإذكاءًا للعزائم وتهيئةً للنفوس، حتى تُحسنَ التعامل مع فرصةِ رمضان ، وحتى لا تفوتها, وهذا شأن السلف الصالح - رحمهم الله تعالى- قال معلى ابنُ الفضلِ عن السلف أنهم كانوا يدعون الله جل وعلا ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ويدعونه ستةً أخرى أن يتقبله منهم ، وقال يحيى بنُ كثيرٍ – رحمه الله – كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني فتقبله .
أيها الأحبة في الله : قدوم رمضان تلو رمضان يدل على تعاقب الأيام، فالأيام تمضي والسنون تجري وكُلٌ إلى داع الموت سيصغي:
تمر بنا الأيام تترى وإنما * نساقُ إلى الآجال والعينُ تنظرُ
فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مضى * ولا زائلٌ هذا المشيبُ المكدرُ
عباد الله
: هاهو شهر العزة والكرامة ، شهر الجهاد والنصر، شهر الجدية والعزيمة, هاهو قد أتى فهل آن للأمة أن تنفضَ عنها غبارَ التبعية، هل آن لها أن ترفعَ عن نفسها أسباب الذلة والهوان.
لقد زارنا رمضان مرات عديدة ، فما زارنا في مرة إلا وجدنا أسوأ من العام الذي قبله ، أممٌ متناثرةٌ، وقلوبٌ متناثرة ، ودولٌ متقاطعةٌ، وأحزابٌ متصارعة، وفتنٌ محدقةٌ،وشهواتٌ مفرقةٌ، الأمة في مساغبها ومجاعاتها وأمراضها..
رمضان أتى بخيراته وبركاته فكيف حال الناس بل كيف حال الأمة الإسلامية ، رمضان آتى والأمةُ تميد بها الأرض جراءَ تسلط الأعداء على ديارها، الأرضُ المباركةُ تعاني الذلة والهوان ، رمضان آت والأمة لا زالت تغالب الصليب في أفغانستان والعراق ،واليهود في فلسطين، والإلحادَ والشيوعيةَ في الشيشان، وتقاسي الأمرين وهي توصم ظلماً وزوراً بالغلو والتطرف والإرهاب.
رمضان آت يا عبد الله فأيُ رمضان يكون رمضانك؟
وما هو استعدادك وما هي مراسم استقبالك له. فالناس في استقباله أقسام: فهل أنت - يا أخي - من القسم الفرح بقدومه لأنه يزداد به قربى وزلفى إلى ربه جل وعلا، وهذا شأن المؤمنين: (
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:57،58) ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم على رأس هؤلاء يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) متفق عليه.
وهناك صنف ثان- وأعيذك بالله من حاله- لا يعرف ربه إلا في رمضان فلا يصلي ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان, وهذه توبةٌ زائفةٌ ومخادعةٌ وتسويلٌُ من الشيطان وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.. ويا حسرة على أقوام تعساء يستقبلونه بالضجر والتضايق والحرج على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي .. إن بعض العصاة يراونه مانعاً لهم من شهواتهم ومن مأربهم الباطلة فهم كالذئاب في الليل تعوي وكالجيف في النهار تخور كما يخور الثور.
وياعجباً هل يتأفف من شهر الرضوان والرحمة !! لا والله بل هو شهر الخير والنعمة والبركة، إن الواحد من هؤلاء هداهم الله يُحس بالحرمان من الشهوات ولذلك تراهم إذا قدم رمضان غيرَ فرحين بقدومه لأن هؤلاء يريدون أن يغترفوا من حمأة اللذة المحرمة حتى لقد قال بعض التعساء من أولاد الخلفاء كما ذكره الحافظ ابن رجب في الوظائف :
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر * ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر* لاستعديت قومي على الشهر
والذي حصل لهذا الشاب أن ابتلاه الله بمرض الصرع فكان يُصْرَعُ في اليوم مراتٍ وكراتٍ ومازال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر، نسأل الله تعالى حسن الختام
.
أيها المسلم: إن من نعم الله تعالى عليك أن مدّ في عمرك ومدّ في أنفاسك وجعلك تدرك خيرات هذا الشهر العظيم، فاحمدوا الله - عباد الله- أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامعٍ بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون، بلغناه وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريبٍ لنا أضجعناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب * حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما * فلا تصيره أيضاً شهر عصيانواتل القرآن وسبح فيه مجتهداً * فإنه شهر تسبيح وقرآنكم كنت تعرف ممن صام في سلف * من بين أهل وإخوان وجيرانأفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً * فما أقرب القاصي من الداني
يا عبدًَ الله
تابع الجزء الثاني شيق جدا