(المشكلة هي أنّ الشكّ كان قد بدأ يحيط بقدرة النظام السياسي الغربي على الحدّ من جبروت السلطة وجنون القوّة، ما دام أنّ كثيرين من السياسيين والمفكرين ورجال الاقتصاد والدين وقيادات المجتمع يستنكرون ذلك بشدّة ولكنهم يقفون مكتوفي الأيدي أمامه، غير قادرين على كبح جماح هذا الجنون العالمي المتغطرس الجديد)، كان هذا ما كتبه كاتب هذه السطور في 17 مايو 2004، وكان السؤال حينها هو (أميركا... القوة هل تهزم السياسة؟)
لقد كان الجواب واضحاً وصريحاً وقوياً في الانتخابات الأميركية الأخيرة، لقد انتصر النظام السياسي الغربي على نفسه وعدّل أخطاءه بقوة دفعه الذاتية، وانتهت سنوات العنجهية السياسية وجاء دور العقل والمنطق، وانتخب باراك أوباما "الديمقراطي" الأميركي من أصل أفريقي، ذو البشرة الداكنة والأب المسلم والنشأة الشرق آسيوية، لا يملك المراقب إلا أن يتعجب أي تطورٍ إنسانيٍ عظيم أوصلهم إلى هذه الدرجة من التحضر والرفاه!
تحدّث الكثيرون عمّا يمكن أن يُقال حول أميركا وأوباما، لقد شهدنا حدثاً تاريخياً بكل المقاييس، وهذا صحيح، وقد أثبتت أميركا للعالم أنّها لم تزل حاملة مشعل الحرية والمساواة في العالم منذ الدستور وحتى أوباما، وهذا أيضاً صحيح، لقد استطاعت أميركا تجاوز الكثير من عقد العنصرية لا العنصرية كلها، وهذا كذلك صحيح.
لقد نجح أوباما نجاحاً مذهلاً حسبَ البعض أنّه لن يستطيع الوصول إليه، ولكنّه أحسن قراءة اللحظة التاريخية من جهةٍ، وساعدته أحداثها وأوضاعها من جهةٍ ثانية، فقد استفاد من الأخطاء التي ارتكبها بوش في العالم، والحماقات التي وزّعها بغير حسابٍ، واستغلّها أوباما أقوى استغلال ووظفها لصالحه توظيفاً ناجحاً، وقد استفاد أيضاً من الأزمة الاقتصادية العالمية التي ستعود خيوطها لاحقاً لتلتفّ حول رقبته من جديد، لأنّه مطالبٌ بإصلاحها وتجاوزها، لقد أحسن أوباما اختيار فريقه الانتخابي في التواصل مع كافة شرائح المجتمع الأميركي، لا بل تجاوز ذلك إلى المستوى العالمي، أحسب أنّ حملة أوباما لم تكن تسعى لانتخابه رئيساً فحسب، بل إنّها كانت تسعى إلى تقديمه للعالم كله كأسطورةٍ إنسانية جديدة، وقد نجحت في ذلك إلى حدٍ جعل الاحتفالات بانتصاره تعم الكرة الأرضية بأشكالٍ شتى وطرقٍ متباينة.
لم تأت تلك الاحتفالات من فراغٍ؛ فلقد علّق الناس على أسطورة أوباما أشياء كثيرةٍ جميلة، فقد رأى فيه المضطهدون أملاً، ورأى فيه المظلومون حلماً، وحبا إلى المجد وحبا إليه المجد خطوةً بعد أخرى، لقد جاء للعالم وهو مليء بالكراهية واليأس والحروب والدماء والفقر، فقدّم الحب والأمل والسلام والرخاء للناس، وكأنها أقرب إليهم من حبل الوريد، أو هكذا أرادت حملته الانتخابية أن ترسم صورته لدى الناس.
بعيداً عن أوباما المؤسطر، لقد كان أوباما السياسي ذكياً في تناوله للقضايا الداخلية والخارجية، ذكياً في اختياراته ومواقفه، يحسب لكل خطوةٍ حسابها، ويزنها بميزانها الدقيق، أسعده وأنجده في ذلك ملكات ذاتية بناها فكرياً وعملياً عبر تاريخه الذي كان فيه جادّاً وفاعلاً ومصمماً وعازماً على تحقيق أبعد الأحلام ونيل أقصى المنى، وقد فعل.
أمام أوباما تحديات حقيقية اليوم ستنزل الأسطورة من عرشها الصافي الخيالي الطهراني إلى أرض الواقع، وأرض الواقع مليئة بالغيوم والألغام والأوساخ، وهو لابدّ سيخطئ هنا ويزلّ هناك، وسيعاني أشدّ المعاناة من حجم التعقيد والتداخل على هذه الأرض، وما سيزيد الطين بلّة هو ما يحمله على كتفيه من أحلام الناس وآمالهم، تلك التي لا يستطيع أن يحقّقها ولا أن يرضيها مهما أوتي من عقلٍ وحكمةٍ، فنحن نعلم أنّ رضا الناس غاية لا تدرك.
سننشغل كثيراً بترقّب خطوات أوباما حول القضايا الرئيسية في منطقتنا، التهديد الإيراني لدول الخليج، وسعي إيران لبسط نفوذها في المنطقة كلها، السلام العربي- الإسرائيلي، الوضع في العراق وفي أفغانستان، سنختلف في تحليل مواقفه قبل أن نتخاصم على نتائج سياساته، ولكنّ الأهمّ هو ماذا علينا أن نفعل نحن لنحمي أنفسنا وندعم مواقفنا ونفرض شروطنا ورؤانا؟ إنّنا ما لم نقف مع أنفسنا فلن ينفعنا أحدٌ كائناً من كان، إن لم نتبصّر طريق الخلاص، فلن يأخذ أحد بأيدينا إليه.
حرصت على أن أرصد ردود أفعال بعض التيارات الإسلامية حول انتخاب أوباما، فكانوا-كالعادة- يتهجمون عليه ويرفضونه حتى قبل أن يستلم منصبه، ورأيت أنّ الحركيين المنظّمين كالمرشد العام للإخوان مهدي عاكف وخالد مشعل قائد "حماس" قد اتخذوا مواقف سياسية مهادنة نوعاً ما وابتعدوا عن خطابهم الأيديولوجي المتشدّد، في حين كان غيرهم يسوق الشتائم لأوباما ويصفه بأنه لا يعدو أن يكون مجرّد حيةٍ لها جلد أملس! وأعجب من هذا ما قام به موقع أحد من يسمّون كبار الدعاة من شماتة وسخرية بأوباما، حيث نقل الموقع عن وكالات الأنباء مقتل عشرين جندياً أميركياً في أفغانستان ثم عقّّب على هذا بقوله: (ولعلّ من تمام توفيق الله عزّ وجل أنّه يسرّ هذا النصر المهم-عسكريا ومعنوياً- على الأعداء المحتلين في يوم الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبخاصة أن أساس الحملة الانتخابية لخليفة بوش الصغير في البيت الأبيض تركز على هجائه لسياسة سلفه، لأنه لم يفعل ما يكفي من الإجرام في أفغانستان وباكستان كذلك! فهل هناك رسالة أفضل وأجمل وأبهى من رسالة كهذه لأوباما في يوم عرسه؟)!
والأعجب من هذا أنّ أبا عمر البغدادي الذي وصف نفسه بأمير دولة العراق الإسلامية يعرض على أوباما الصفقة التالية: (وإنّي اليوم وبالنيابة عن إخواني في العراق وأفغانستان والصومال والشيشان أعرض عليكم ما هو خير لكم ولنا: أن تعودوا إلى سابق عهدكم من الحياد وتسحبوا قواتكم وتعودوا إلى دياركم ولا تتدخلوا في شؤون بلادنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكم علينا أن لا نمنع التجارة معكم سواء أكانت في النفط أو غيره، ولكن بالعدل والقسطاس لا بالبخس والخسران)! ويقابل هؤلاء قلة تشكل طيفاً آخر من الإسلاميين رأى في انتخاب أوباما تطبيقاً لتعاليم الإسلام في العدل والمساواة، تلك التعاليم التي لم يعد عندنا منها شيء وأخذها الغرب، ليذكرنا بقول الإمام محمد عبده عن الغرب: وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين.
ليس أوباما أوّل حاكمٍ ذا بشرةٍ داكنةٍ في التاريخ دون شك، ففي تواريخ الأمم كثيرون وفي التاريخ العربي والإسلامي عديدون، ولكنّه في ظلّ السياق الغربي والعالمي الذي انتخب فيه يشكّل حدثاً تاريخياً مدوّياً، وسيختصم الناس حوله طويلاً وستصدر كتبٌ عنه وعن ظاهرته المثيرة للجدل، وستنتج أفلامٌ وتكتب رواياتٌ، وبغض النظر عمّا سيفعله لاحقاً فقد دخل دون شكٍ بل وبجدارة في قائمة مالئي الدنيا وشاغلي الناس.
*نقلاً عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية